الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)} قوله عز وجل: {والذريات ذَرْواً...} الآية، أقسم اللَّه عز وجل بهذه المخلوقات؛ تنبيهاً عليها، وتشريفاً لها، ودَلاَلَةً على الاعتبار فيها، حَتَّى يصيرَ الناظرُ فيها إلى توحيد اللَّه عز وجل، فقوله: {والذريات}: هي الرياح بإجماعٍ و{ذَرْواً} نُصِبَ على المصدر، و{فالحاملات وِقْراً} قال عليٌّ: هي السحاب، وقال ابن عباس وغيره: هي السفن الموقورة بالناس وأمتعتهم، وقال جماعة من العلماء: هي أيضاً مع هذا جميع الحيوانِ الحامل، وفي جميع ذلك مُعْتَبَرٌ، و{فالجاريات يُسْراً} قال عليٌّ وغيره: هي السفن في البحر، وقال آخرون: هي السحاب، وقال آخرون: هي الكواكب؛ قال * ع *: واللفظ يقتضي جميعَ هذا، و{يُسْراً} نعت لمصدر محذوف، وصفات [المصادر المحذوفة تعود أحوالاً]، و{يُسْراً} معناه: بسهولة و{فالمقسمات أَمْراً}: الملائكة، والأمر هنا: اسم جنس، فكأَنَّه قال: والجماعات التي تقسم أمورَ الملكوت، من الأرزاق، والآجال، والخلق في الأرحام، وأمر الرياح والجبال، وغير ذلك؛ لأَنَّ كُلَّ هذا إنَّما هو بملائكة تخدمه، وأَنَّثَ {فالمقسمات} من حيث أراد الجماعات، وهذا القَسَمُ واقع على قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لصادق...} الآية، و{تُوعَدُونَ} يحتمل أنْ يكونَ من الوعد، ويحتمل أَنْ يكون من الإيعاد، وهو أَظهر، و{الدين}: الجزاء، وقال مجاهد: الحساب. ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر، فقال: {والسماء ذَاتِ الحبك} والحُبُكُ: الطرائق التي هي على نظامٍ في الأجرام، ويقال لما تراه من الطرائق في الماء والرمال إذا أصابته الريحُ: حبك، ويقال لِتَكَسُّرِ الشعر: حُبُك، وكذلك في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائِقُ في موضع تداخل الخيوط هي حبك؛ وذلك لجودة خِلْقَةِ السماء؛ ولذلك فَسَّرَها ابن عباس وغيره بذات الخلق الحَسَنِ وقال الحسن: حُبُكُهَا كَوَاكِبُها.
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)} وقوله سبحانه: {إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} يحتمل أنْ يكون خطاباً لجميع الناس، أي: منكم مؤمن بمحمد، ومنكم مُكَذِّبٌ له، وهو قول قتادة، ويحتمل أَنْ يكونَ خطاباً للكفرة فقط؛ لقول بعضهم: شاعر، وبعضهم: كاهن، وبعضهم: ساحر، إلى غير ذلك؛ وهذا قول ابن زيد. و {يُؤْفَكُ} معناه: يُصْرَفُ، أي: يصرف من الكفار عن كتاب اللَّه مَنْ صُرِفَ مِمَّنْ غلبت عليه شَقَاوَتُهُ، وعُرْفُ الاستعمال في «أفك» إنَّما هو في الصرف من خير إلى شَرٍّ. وقوله تعالى: {قُتِلَ الخراصون} دعاءٌ عليهم؛ كما تقول: قاتلك اللَّه، وقال بعض المفسرين. معناه: لُعِنَ الخرَّاصون، وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ. * ت *: والظاهر ما قاله هذا المُفَسِّرُ؛ قال عِيَاضٌ في «الشفا» وقد يقع القتل بمعنى اللعن؛ قال اللَّه تعالى: {قُتِلَ الخراصون} و{قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] أي: لعنهم اللَّه، انتهى، وقد تقدَّم للشيخ عند قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} [الفتح: 6] قال: كُلُّ ما كان بلفظ دعاء من جهة اللَّه عز وجل، فَإنَّما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأَنَّ اللَّه تعالى لا يدعو على مخلوقاته، انتهى بلفظِهِ، وظاهِرُهُ مخالف لما هنا، وسيبينه في سورة البروج، والخَرَّاصُ: المُخَمِّنُ القائل بِظَنِّهِ، والإشارة إلى مُكَذِّبي النبي صلى الله عليه وسلم، والغَمْرَةُ: ما يَغْشَى الإنسانَ ويغطيه؛ كغمرة الماء، و{ساهون} معناه: عن وجوه النظر. وقوله تعالى: {يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين} أي: يوم الجزاء، وذلك منهم على جهة الاستهزاء.
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} وقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} قال الزَّجَّاجُ: التقدير: هو كائن يومَ هم على النار يُفَتَنُونَ، و{يُفْتَنُونَ} معناه: يُحْرَقُونَ ويُعَذَّبُون في النار؛ قاله ابن عباس والناس، وفَتَنْتُ الذهبَ أحرقتُه، و{ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} أي: حرقكم وعذابكم؛ قاله قتادة وغيره. {إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ...} الآية، روى الترمذيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ، حتى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ؛ حَذَراً لِمَا بِهِ البَأْسُ " قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى، وقوله سبحانه في المتقين: {ءَاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} أي: مُحَصِّلِينَ ما أعطاهم رَبُّهم سبحانه من جناته، ورضوانه، وأنواع كراماته {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ}: يريد في الدنيا {مُحْسِنِينَ}: بالطاعات] والعمل الصالح. * ت *: وروى التِّرْمِذِيُّ عن سعد بن أبي وَقَّاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا في الجَنَّةِ بَدَا لَتَزَخْرَفَ لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السموات والأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَ، فَبَدَا أَسَاوِرُهُ، لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ؛ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ " انتهى، ومعنى قوله: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} أَنَّ نومهم كان قليلاً؛ لاشتغالهم بالصلاة والعبادةِ، والهجوعُ: النومُ، وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية: كابَدُوا قيامَ الليل، لا ينامون منه إلاَّ قليلاً، وأَمَّا إعرابُ الآية فقال الضَّحَّاكُ في كتاب الطبريِّ: ما يقتضي أنَّ المعنى: كانوا قليلاً في عددهم، وتَمَّ خبرُ «كان»، ثم ابتدأ {مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} فما نافية و{قَلِيلاً} وقف حسن، وقال جمهور النحويين: ما مصدريَّةٌ و{قَلِيلاً} خبرُ {كَانَ}، والمعنى: كانوا قليلاً من الليل هجوعُهُم، وعلى هذا الإعراب يجيء قولُ الحسن وغيرِهِ، وهو الظاهر عندي أَنَّ المراد كان هُجُوعُهُمْ من الليل قليلاً؛ قيل لبعض التابعين: مَدَحَ اللَّهُ قوماً {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} ونَحْنُ قليلاً من الليل ما نقوم! فقال: رَحِمَ اللَّهُ امرأً رقد إذا نعس، وأطاع رَبَّه إذا استيقظ.
{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} وقوله تعالى: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال الحسن: معناه: يدعون في طَلَبِ المغفرة، ويُرْوَى أَنَّ أبوابَ الجنة تُفْتَحُ سَحَرَ كُلَّ ليلة، قال ابن زيد: السَّحَرُ: السُّدُسُ الآخر من الليل، والباء في قوله {وبالأسحار} بمعنى في؛ قاله أبو البقاء، انتهى، ومن كلام [ابن] الجوزي في «المُنْتَخَبِ»: يا أخي، علامةُ المَحَبَّةِ طلبُ الخَلْوَةِ بالحبيبِ، وبيداءُ اللَّيل فلواتُ الخلوات، لَمَّا ستروا قيامَ الليل في ظلام الدُّجَى؛ غَيْرَةً أَنْ يَطَّلِعَ الغيرُ عليهم سترهم سبحانه بسترٍ، {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، لَمَّا صَفَتْ خلواتُ الدُّجَى، ونادى أذان الوصال: أقم فلاناً، وأنم فلاناً خرجت بالأسماء الجرائد؛ وفاز الأحبابُ بالفوائد، وأنت غافل راقد. آهِ لو كنتَ معهم! أسفاً لك! لو رأيتهم لأبصرتَ طلائِعَ الصِّدِّيقِينَ في أول القوم، وشاهدتَ سَاقَةَ المستغفرين في الرَّكْبِ، وسَمِعْتَ استغاثة المُحِبِّينَ في وسط الليل،، لو رأيتهم يا غافلُ، وقد دارت كُؤوسُ المناجات؛ بين مزاهر التلاوات، فأسكَرَتْ قَلْبَ الواجدِ، ورقمت في مصاحف الوجنات. تعرفهم بسيماهم، يا طويلَ النوم، فاتتك مِدْحَةُ {تتجافى} [السجدة: 16] وَحُرِمْتَ مِنْحَةَ {والمستغفرين} [آل عمران: 17]، يا هذا، إنَّ للَّه تعالى ريحاً تُسَمَّى الصَّبِيحَةَ مخزونةً تحتَ العرش، تَهُبُّ عند الأسحار، فتحمل الدعاء والأنين والاستغفار إلى حضرة العزيز الجَبَّارِ، انتهى. {وَفِى أموالهم حَقٌّ...} الآية، الصحيح أَنَّها مُحْكَمَةٌ وأنَّ هذا الحق هو على وجه الندب، و{مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24] يُرَادُ به: مُتَعَارَفٌ، وكذلك قيامُ الليل الذي مدح به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفضيلةُ بفعل المندوبات، والمحروم هو الذي تَبْعُدُ عنه مُمْكِنَاتُ الرزق بعد قربها منه، فيناله حرمان وَفاقَةٌ، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حَقٌّ في أموال الأغنياء، كما للسائل حَقٌّ، وما وقع من ذكر الخلاف فيه فيرجع إلى هذا، وبعد هذا محذوف تقديره: فكونوا أَيُّها الناسُ مثلَهم وعلى طريقهم، و{فِى الأرض ءايات}: لمن اعتبر وأيقن. وقوله سبحانه: {وَفِى أَنفُسِكُمْ} إحالة على النظر في شخص الإنسان، وما فيه العِبَرِ، وأمرِ النفسِ، وحياتِهَا، ونطقِها، واتصالِ هذا الجزء منها بالعقل؛ قال ابن زيد: إنَّما القلب مُضْغَةٌ في جوف ابن آدم، جَعَلَ اللَّه فيه العقل، أفيدري أحد ما ذلك العقل، وما صِفَتُه، وكيف هو. * ت *: قال ابن العربيِّ في رحلته: اعلم أَنَّ معرفة العبد نَفْسَهُ من أولى ما عليه وآكدِهِ؛ إذْ لاَ يَعْرِفُ رَبَّه إلاَّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ؛ قال تعالى: {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} وغير ما آية في ذلك، ثم قال: ولا ينكر عاقل وُجُودَ الرُّوحِ من نفسه، وإنْ كان لم يدركْ حقيقتَه، كذلك لا يَقْدِرُ أنْ يُنْكِرَ وُجُودَ الباري سبحانه الذي دَلَّتْ أفعاله عليه، وإنْ لم يدركْ حقيقته، انتهى.
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} وقوله سبحانه: {وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} قال مجاهد وغيره: هو المطر، وقال واصل الأحدب: أراد القضاء والقدر، أي: الرزق عند اللَّه يأتي به كيف شاء سبحانه لا رَبَّ غيرُه، و{تُوعَدُونَ} يحتمل أَنْ يكونَ من الوعد، ويحتمل أَنْ يكونَ من الوعيد؛ قال الضَّحَّاكُ. المُرَادُ: من الجنة والنار، وقال مجاهد: المرادُ: الخيرُ والشَّرُّ، وقال ابن سيرين: المراد: الساعة، ثم أقسم سبحانه بنفسه على صِحَّةِ هذا القول والخبر، وشَبَّهَهُ في اليقين به بالنُّطْقِ من الإنسان، وهو عنده في غاية الوضوح، و«ما» زائدة تعطي تأكيداً، والنطق في هذه الآية هو الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني، ورُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الأعراب الفصحاء سَمِعَ هذه الآيةَ فقال: مَنْ أَحْوَجَ الكريمَ إلى أَنْ يحلف؟! والحكاية بتمامها في كتاب الثعلبيِّ، وسبل الخيرات، ورُوِيَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " قَاتَلَ اللَّهُ قَوْماً، أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ " ورَوَى أبو سعيد الخُدَرِيُّ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَوْ فَرَّ أَحَدُكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لَتَبِعَهُ كَمَا يَتْبَعُهُ المَوْتُ " وأحاديث الرزق كثيرة، ومن كتاب «القصد إلى اللَّه سبحانه» للْمُحَاسِبِيِّ: قال: قلتُ لشيخنا: من أين وقع الاضطرابُ في القلوب، وقد جاءها الضمانُ من اللَّه عز وجل؟ قال: من وجهين. أحدهما: قِلَّةُ المعرفة بحُسْنِ الظَّنِ، وإلقاءِ التُّهَمِ عن اللَّه عز وجل. والوجه الثاني: أنْ يعارضها خوفُ الفَوْت، فتستجيبَ النفسُ للداعي، ويَضْعُفَ اليقينُ، ويَعْدِمَ الصبرُ، فيظهرَ الجَزَعُ. قلتُ: شيءٌ غيرُ هذا؟ قال: نعم، إنَّ اللَّه عز وجل وَعَدَ الأرزاق، وضَمِنَ، وغَيَّبَ الأوقات؛ ليختبرَ أهلَ العقول، ولولا ذلك لكان كُلُّ المؤمنين راضين صابرين متوكِّلِين، لكنَّ اللَّه عز وجل أعلمهم أَنَّهُ رازقهم، وحَلَفَ لهم على ذلك، وغَيَّبَ عنهم أوقاتَ العطاء، فَمِنْ ها هنا عُرِفَ الخَاصّ من العامِّ، وتفاوت العبادُ في الصبر، والرضا، واليقين، والتوكل، والسكون، فمنهم كما علمتَ ساكنٌ، ومنهم متحرك، ومنهم راض، ومنهم ساخط، ومنهم جَزِعٌ، فعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين، وعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في اليقين تفاوتوا في السكون والرضا والصبر والتوكل. اه.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} وقوله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم...} الآية، قد تقدم قَصَصُهَا، و«عليم» أي: عالم، وهو إسحاق عليه السلام. * ت *: ولنذكر هنا شيئاً من الآثار في آداب الطعام، قال النوويُّ: روى ابن السُّنِّيِّ بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يقول في الطعام إذا قُرِّبَ إلَيْهِ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقْتَنَا، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، باسم اللَّهِ " انتهى، وفي «صحيح مسلم» عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لاَ مَبِيتَ لَكُمْ، وَلاَ عَشَاءَ، وَإذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ وَالْعَشَاءَ "، وفي «صحيح مسلم» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَلاَّ يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ " الحديث، انتهى، والصَّرَّةُ: الصيحة؛ كذا فسره ابن عباس وجماعة، قال الطبريُّ عن بعضهم: قَالَتْ: «أَوَّهْ»؛ بِصِيَاحٍ وتَعَجُّبٍ؛ وقال النَّحَّاسُ: {فِى صَرَّةٍ} في جماعة نسوة. وقوله: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا}: معناه: ضربْت وَجْهَهَا؛ استهوالاً لما سمعت، وقال سفيان وغيره: ضَرَبَتْ بِكَفِّهَا جبهتها، وهذا مُسْتَعْمَلٌ في الناس حَتَّى الآن، وقولهم: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} أي: كقولنا الذي أخبرناك. وقوله تعالى: {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} بيانٌ يخرج عن مُعْتَادِ حجارة البرَد التي هي من ماء، ويُرْوَى أَنَّه طين طُبِخَ في نار جَهَنَّمَ حَتَّى صار حجارة كالآجر، و{مُّسَوَّمَةً} نعت لحجارة، ثم أخبر تعالى أَنَّه أخرج بأمره مَنْ كان في قرية «لوط» مِنَ المؤمنين، منجياً لهم، وأعاد الضمير على القرية، وإنْ لم يجرِ لها قبل ذلك ذكر؛ لشهرة أمرها، قال المفسرون: لاَ فَرْقَ بين تقدُّمِ ذكر المؤمنين وتأخُّرِهِ؛ وإِنَّمَا هما وصفانِ ذَكَرَهُمْ أَوَّلاً بأحدهما، ثم آخراً بالثَّاني، قيل: فالآية دالَّةٌ على أَنَّ الإيمان هو الإسلام، قال * ع *: ويظهر لي أَنَّ في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان؛ وذلك أَنَّهُ ذكره مع الإخراج من القرية، كأَنَّهُ يقول: نفذ أمرنا بإخراج كُلِّ مؤمن، ولا يُشْتَرَطُ فيه أنْ يكون عاملاً بالطاعات؛ بلِ التصديق باللَّه فقط، ثم لما ذكر حال الموجودين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها، وهي الكاملةُ التصديق والأعمالِ، والبيتُ من المسلمين هو بيتُ لوط عليه السلام وكان هو وابنتاه، وفي كتاب الثعلبيِّ: وقيل: لوط وأهل بيته ثلاثةَ عَشَرَ، وهلكت امرأتُه فيمن هلك، وهذه القصة ذُكِرَتْ على جهة ضرب المثل لقريش، وتحذيراً أنْ يصيبهم مثلُ ما أصاب هؤلاء.
{وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)} وقوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَا} أي: في القرية، وهي سدوم {ءَايَةً}، قال أبو حيان: {وَفِى موسى}، أي: وفي قصة موسى، [انتهى]. وقوله سبحانه في فرعون: {فتولى بِرُكْنِهِ} أي: أعرض عن أمر اللَّه، ورُكْنُهُ: هو سلطانُه وجُنْدُهُ وشدَّةُ أمره، وقول فرعون في موسى: {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} هو تقسيم، ظَنَّ أَنَّ موسى لا بُدَّ أَنْ يكونَ أَحَدَ هذين القسمين، وقال أبو عبيدةَ: «أو» هنا بمعنى الواو، وهذا ضعيف لا داعيةَ إليه في هذا الموضع. وقوله: {مَا تَذَرُ مِن شَئ أَتَتْ عَلَيْهِ} أي: ما تدع من شيء أتتْ عليه مِمَّا أذِنَ لها في إِهلاكه {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم}: وهو الفاني المُتَقَطِّعُ؛ يبساً أو قِدَماً من الأشجار والوَرَقِ والعِظَامِ، ورُوِيَ في حديث: أَنَّ تلك الريح كانت تَهُبُّ على الناس فيهم العاديُّ وغيرُهُ، فَتَنْتَزِعُ العَادِيَّ من بين الناس وتذهب به. وقوله سبحانه: {وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ} أي: إذ قيل لهم في أول بَعْثِ صالح، وهذا قول الحَسَنِ، ويحتمل: إذْ قيل لهم بعد عَقْرِ الناقة: تمتعوا في داركم ثلاثة أَيَّامٍ؛ وهو قول الفرَّاء. وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي: يبصرون بعيونهم، وهذا قول الطبريِّ، ويحتمل أَنْ يريدَ وهم ينتظرون في تلك الأَيَّامِ الثلاثة، وهذا قول مجاهد.
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)} {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} أي: من مصارعهم؛ قاله بعض المفسرين، وقال قتادة وغيره: معناه من قيام بالأمر النازل بهم ولا دَفْعِهِ عنهم. {وَقَوْمَ نُوحٍ} بالنصب، وهو عَطْفٌ إمَّا على الضمير في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ}، إذْ هو بمنزلة أَهلكتهم، وإمَّا على الضمير في قوله: {فنبذناهم}. وقوله: {والسماء بنيناها} نُصِبَ بإضمار فعل تقديره: وَبَنَيْنَا السماء بَنيناها، والأيد: القوة؛ قاله ابن عباس وغيره {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي: في بناء السماء، أي: جعلناها واسعةً؛ قاله ابن زيد. أبو البقاء {فَنِعْمَ الماهدون} أي: نحن، فحذف المخصوص انتهى.
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} وقوله سبحانه: {وَمِن كُلِّ شَئ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} قال مجاهد: معناه: أَنَّ هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء؛ كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهُدَى والضلال، والسماء والأرض، والسواد والبياض، والصِّحَّةِ والمرض، والإيمان والكفر، ونحو هذا، ورَجَّحَهُ الطبريُّ بأَنَّه أَدَلُّ على القدرة التي تُوجدُ الضدين، وقال ابن زيد وغيره: هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كل حيوان. * ت *: والأَوَّلُ أحسن؛ لشموله لما ذكره ابن زيد. وقوله سبحانه: {فَفِرُّواْ إِلَى الله...} الآية أمر بالدخول في الإيمان وطاعَةِ الرحمن، وَنَبَّهَ بلفظ الفرار على أَنَّ وراءَ الناس عقاباً وعذاباً يَفِرُّ منه، فجمعتْ لفظةُ «فروا» بين التحذير والاستدعاء. * ت *: وأسند أبو بكر، أحمد بن الحسين البيهقيُّ في «دلائل النبوَّةِ» (تصنيفه) عن كَثِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن أبيه، عن جَدِّهِ " أَنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ في الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ كَلاَماً مِنْ زَاوِيَتِهِ، وَإذَا هُوَ بِقَائِلٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، أَعِنِّي عَلَى مَا يُنْجِينِي مِمَّا خَوَّفْتَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ: أَلاَ تَضُمُّ إلَيْهَا أُخْتَهَا؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ، ارْزُقْنِي شَوْقَ الصَّادِقِينَ إلَى مَا شَوَّقْتَهُمْ إلَيْهِ " وفيه: " فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ، فَإذَا هُوَ الخَضِرُ عليه السلام "، انتهى مختصراً. وقوله تعالى: {كذلك} أي: سيرة الأمم كذلك؛ قال عياض: فهذه الآية ونظائرها تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، عَزَّاهُ اللَّه عز وجل بما أخبر به عن الأُمَمِ السالفة ومقالها لأنبيائها، وأَنَّه ليس أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ ذلك، انتهى من «الشفا». وقوله سبحانه: {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكَفَرَةِ في تكذيب الأنبياء على تَفَرُّقِ أَزمانهم، أي: لم يتواصوا، لكنَّهُم فعلوا فعلاً كأَنَّهُ فعل مَنْ تواصى، والعِلَّةُ في ذلك أَنَّ جميعهم طاغٍ، والطاغي المستعلي في الأرض، المُفْسِدُ. وقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: عنِ الحرص المُفْرِطِ عليهم، وذَهَابِ النفس حَسَرَاتٍ، ولستَ بملوم؛ إذ قد بَلَّغْتَ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى}: نافعة للمؤمنين، ولمن قُضِيَ له أَنْ يكون منهم.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)} وقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قال ابن عباس وعليٌّ: المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلاَّ لآمرهم بعبادتي، وليقرُّوا لي بالعبودِيَّةِ، وقال زيد بن أسلمَ وسفيان: هذا خاصٌّ، والمراد: ما خلقت الطائعين من الجن والإنس إلاَّ لعبادتي، ويؤَيِّدُ هذا التأويلَ أَنَّ ابن عباس رَوَى عَن النبي صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَرَأَ: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ "، وقال ابن عباس أيضاً: معنى {لِيَعْبُدُونِ}: ليتذللوا لي ولقدرتي، وإنْ لم يكن ذلك على قوانينِ شرع، وعلى هذا التأويل فجميعهم من مُؤمن وكافر مُتَذَلِّلٌ للَّه عز وجل؛ أَلاَ تراهم عند القحوط والأمراض وغيرِ ذلك كيف يخضعون للَّه ويتذللون؟!. * ت *: قال الفخر: فإنْ قيل: ما العبادة التي خلق اللَّه الجن والإنسَ لها؟ قلنا: التعظيم لأمر اللَّه، والشفقةُ على خلق اللَّه؛ فإنَّ هذين النوعينِ لم يَخْلُ شرعٌ منهما، وأَمَّا خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها: بالوضع والهيئة، والقِلَّةِ والكَثْرَةِ، والزَّمان والمكان، والشَّرَائِطِ والأركان، انتهى، ونقل الثعلبيُّ وغيره عن مجاهد: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي: ليعرفوني، قال صاحب «الكَلِمِ الفارقية»: المعرفة باللَّه تملأ القلبَ مَهَابَةً ومخافَةً، والعينَ عَبْرَةً وعِبْرةً وحياءً وخَجْلَةً، والصَّدْرَ خُشُوعاً وَحُرْمَةً، والجوارحَ استكانةً وذِلَّةً وطاعةً وخدمةً، واللسانَ ذكراً وحمداً، والسمعَ إصغاءً وَتفَهُّماً، والخواطِرَ في مواقف المناجات خموداً، والوساوِسَ اضمحلالاً، انتهى. وقوله سبحانه: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} أي: أنْ يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم. وقوله: {أَن يُطْعِمُونِ} أي: أنْ يطعموا خَلْقِيَ؛ قاله ابن عباس، ويحتمل أنْ يريد: أنْ ينفعوني، و{المتين}: الشديد. * ت *: ورُوِّينَا في«كتاب التِّرْمِذِيِّ» عن أبي هريرةَ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: يَا بْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ "، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ورُوِّينَا فيه عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهْ شَمْلَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَل اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ " انتهى. وقوله سبحانه: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ}: يريد أهل مَكَّةَ، والذّنوب: الحَظُّ والنصيب، وأصله من الدَّلْوِ؛ وذلك أَنَّ الذَّنُوبَ هو مِلْءُ الدَّلْوِ من الماء، وكذا قال أبو حيان: {ذَنُوبِ}، أي: نصيباً، انتهى و{أصحابهم}: يُرَادُ بهم مَنْ تقدم من الأمم المُعَذَّبَةِ، وباقي الآية وعيد بَيِّنٌ.
{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} قوله عز وجل: {والطور * وكتاب مُّسْطُورٍ...} الآية، هذه مخلوقات أقسم اللَّه عز وجل بها؛ تنبيهاً على النظر والاعتبارِ بها، المؤَدِّي إلى توحيد اللَّه والمعرفة بواجب حَقِّه سبحانه؛ قال بعض اللغويين: كُلُّ جبلٍ طُورٌ، فكأَنَّه سبحانه أقسم بالجبال، وقال آخرون: الطور: كُلُّ جبل أجردَ لا ينبت شجراً، وقال نوف البكاليُّ: المراد هنا جبل طُورِ سَيْنَاءَ، وهو الذي أقسم اللَّه به؛ لفضله على الجبال، والكتاب المسطور: معناه بإجماع: المكتوبُ أسطاراً، واخْتَلَفَ الناس في هذا الكتاب المُقْسَمِ به، فقال بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هو الكتاب المُنْتَسَخُ من اللوح المحفوظ للملائكة؛ لتعرفَ منه جميعَ ما تفعله وتصرفه في العالم، وقيل: هو القرآن؛ إذ قد علم تعالى أَنَّه يتخلد في رَقٍّ منشور، وقيل: هو الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ، وقيل: هو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وهو الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً، والرَّقُّ: الورق المُعَدَّةُ للكتب، وهي مُرَقَّقَةٌ؛ فلذلك سُمِّيَتْ رَقًّا، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان، والمنشور خلاف المَطْوِيِّ، {والبيت المعمور}: هو الذي ذُكِرَ في حديث الإسراء؛ قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: هَذَا الْبَيْتُ المَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، وبهذا هي عمارته، وهو في السماء السابعة، وقيل: في السادسة، وقيل: إنَّه مقابلٌ للكعبة، لو وَقَعَ حجر منه، لَوَقَعَ على ظهر الكعبة، وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك، وهي كُلُّها على خط من الكعبة، وقاله علي بن أبي طالب، قال السُّهَيْلِيُّ: والبيت المعمور اسمه «عريباً»، قال وهب بن مُنَبِّهٍ: مَنْ قال: سبحانَ اللَّهِ وبحمده، كان له نور يملأ ما بين عريباً وحريباً، وهي الأرض السابعة، انتهى. {والسقف المرفوع}: هو السماء، واختلف الناس في {والبحر المسجور} فقال مجاهد وغيره: المُوْقَدُ ناراً، ورُوِيَ أَنَّ البحرَ هو جَهَنَّمُ، وقال قتادة: {المسجور}: المملوء، وهذا معروف من اللغة، ورَجَّحَهُ الطبريُّ، وقال ابن عباس: هو الذي ذهب ماؤه، فالمسجور الفارغ، ورُوِيَ أَنَّ البحار يذهب ماؤها يومَ القيامة، وهذا معروف في اللغة، فهو من الأضداد، وقيل: يوقد البحر ناراً يَوْمَ القيامة، فذلك سجره، وقال ابن عباس أيضاً: {المسجور}: المحبوس؛ ومنه ساجور الكلب، وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه، وكذلك لولا أَنَّ البحر يُمْسِكُ لفاض على الأرض، والجمهور على أَنَّه بحر الدنيا، وقال منذر بن سعيد: المُقْسَمُ به جهنم، وسمَّاها بحراً؛ لِسَعَتِها وتموجها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الفرس: " وَإنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْراً "، والقسم واقع على قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} يريد: عذاب الآخرة واقع للكافرين؛ قاله قتادة، قال الشيخ عبد الحق في «العاقبة»: وَيُرْوَى أَنَّ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه سَمِعَ قارئاً يقرأ: {والطور * وكتاب مَّسْطُورٍ} قال: هذا قَسَمٌ حَقٌّ، فلمَّا بلغ القارئ إلى قوله عز وجل: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} ظنَّ أَنَّ العذاب قد وقع به فَغُشِيَ عليه، انتهى، و{تَمُورُ} معناه: تذهب وتجيء بالرياح متقطعةً مُتَفَتِّتَةً، وسير الجبال: هو في أَوَّلِ الأمر، ثم تتفتَّتُ حتى تصيرَ آخراً كالعِهْنِ المنفوش، و{يُدَعُّونَ} قال ابن عباس وغيره: معناه: يُدْفَعُونَ في أعناقهم بشدة وإهانة وتَعْتَعَةٍ، ومنه: {يَدُعُّ اليتيم} [الماعون: 2]، وفي الكلام محذوف، تقديره: يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون؛ توبيخاً وتقريعاً لهم، ثم وقفهم سبحانه بقوله: {أَفَسِحْرٌ هذا..} الآية: ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم: اصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سواء عليكم، أي: عذابكم حتم، فسواء جَزَعُكُمِ وَصَبْرُكُمْ، لا بُدَّ من جزاء أعمالكم.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)} وقوله سبحانه: {إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَعِيمٍ...} الآية: يحتمل أَنْ يكونَ من خطاب أهل النار، فيكون إخبارُهم بذلك زيادةً في غَمِّهِمْ وسُوءِ حالهم، نعوذ باللَّه من سخطه! ويحتمل، وهو الأظهر، أَنْ يكون إخباراً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعاصريه، لما فَرَغَ من ذكر عذاب الكفار عَقَّبَ بذكر نعيم المتقين جعلنا اللَّه منهم بفضله ليبين الفرقَ، ويقعَ التحريضُ على الإيمان، والمتقون هنا: مُتَّقُو الشرك؛ لأَنَّهم لا بُدَّ من مصيرهم إلى الجنات، وكلما زادت الدرجة في التقوى قَوِيَ الحصولُ في حكم الآية، حَتَّى إنَّ المتقين على الإطلاق هم في هذه الآية قطعاً على اللَّه تعالى بحكم خبره الصادق، وقرأ جمهور الناس: «فاكهين» ومعناه: فَرِحِينَ مسرورين، وقال أبو عُبَيْدَةَ: هو من باب: «لاَبِنٌ» و«تَامِرٌ»، أي: لهم فاكهة، قال * ع *: والمعنى الأَوَّلُ أبرع، وقرأ خالد فيما روى أبو حاتم: «فَكِهِينَ» والفَكِهُ والفاكه: المسرور المتنعم. وقوله تعالى: {بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} أي: من إنعامه ورضاه عنهم. وقوله تعالى: {ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} هذا متمكن في مُتَّقِي المعاصي، الذي لا يدخل النارَ {ووقاهم} مشتق من الوقاية، وهي الحائل بين الشيء وبين ما يضرُّه. وقوله: {كُلُواْ واشربوا} أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، و{هَنِيئَا} نُصِبَ على المصدر. وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} معناه: أَنَّ رُتَبَ الجنة ونعيمها بحسب الأعمال، وأَمَّا نَفْسُ دخولها فهو برحمة اللَّه وفضلِهِ، وأعمالُ العباد الصالحاتُ لا تُوجِبُ على اللَّه تعالى التنعيمَ إيجاباً؛ لكِنَّهُ سبحانه قد جعلها أَمارةً على مَنْ سبق في علمه تنعيمه، وعَلَّقَ الثوابَ والعِقَابَ بالتكسب الذي في الأعمال، والحُورُ: جمع حَوْرَاءُ، وهي البيضاء القويةُ بياضِ بياضِ العَيْنِ وَسَوَادِ سَوَادِها، والعِينُ: جمع عَيْنَاءُ، وهي كبيرة العينين مع جمالهما، وفي قراءة ابن مسعود والنَّخَعِيِّ: «وَزَوَّجْنَاهُمْ بِعِيسٍ عِينٍ» قال أبو الفتح: العَيْسَاءُ: البيضاء.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} وقوله سبحانه: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} اخْتُلِفَ في معنى الآية، فقال ابن عباس، وابن جبير، والجمهور: أخبر اللَّه تعالى أَنَّ المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحق الأبناء في الجنة بمراتب الآباء، وإنْ لم يكن الأبناء في التقوى والأعمال كالآباء؛ كرامةً للآباء، وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا الحديثَ تفسيراً للآية، وكذلك وردت أحاديث تقتضي أَنَّ اللَّه تعالى يرحم الآباء؛ رعياً للأبناء الصالحين، وقال ابن عباس أيضاً والضَّحَّاكُ. معنى الآية: أَنَّ اللَّه تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين، يعني في الموارثة والدفن في مقابر المسلمين، وفي أحكام الآخرة في الجنة، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار لا في الكبار؛ قال * ع *: وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأَوَّل؛ لأَنَّ الآياتِ كلَّها في صفة إحسان اللَّه تعالى إلى أهل الجنة، فذكر من جملة إحسانِهِ سبحانه أَنَّه يرْعَى المحسنَ في المسيء، ولفظة {أَلْحَقْنَا} تقتضي أَنَّ لِلْمُلْحَقِ بعضَ التقصير في الأعمال. * ت *: وأظهرُ مَنْ هذا ما أشار إليه الثعلبيُّ في بعض أنقاله: أَنَّ اللَّه تعالى يجمع لعبده المؤمن ذُرِّيَّتَهُ في الجنة، كما كانوا في الدنيا، انتهى، ولم يتعرَّضْ لذكر الدرجات في هذا التأويل، وهو أحسن؛ لأَنَّهُ قد تقرَّرَ أَنَّ رفع الدرجات هي بأعمال العاملين، والآياتُ والأحاديث مُصَرِّحَةٌ بذلك، ولما يلزم على التأويل الأَوَّلِ أَنْ يكونَ كُلُّ مَنْ دخل الجنةَ مع آدم عليه السلام في درجةٍ واحدة؛ إذ هم كُلُّهم ذرِّيَّتُهُ، وقد فتحتُ لك باباً للبحث في هذا المعنى منعني من إتمامه ما قصدته من الاختصار، وباللَّه التوفيق. وقوله: {وَمَا ألتناهم} أي: نقصناهم، ومعنى الآية أَنَّ اللَّه سبحانهُ يُلْحِقُ الأبناء بالآباء، ولا يُنْقِصُ الآباء من أجورهم شيئاً، وهذا تأويل الجمهور، ويحتمل أَنْ يريدَ: مِنْ عمل الأَبناء من شيء من حسن أو قبيح، وهذا تأويل ابن زيد، ويُؤيِّدُهُ قوله سبحانه: {كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} والرهين: المُرْتَهِنُ، وفي هذه الألفاظ وعيد، وأمددتُ الشيءَ: إذا سرّبْتُ إليه شيئاً آخر يكثره أو يكثر لديه. وقوله: {مِّمَّا يَشْتَهُونَ} إشارة إلى ما رُوِيَ من أَنَّ المُنَعَّمَ إذا اشتهى لحماً نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها، وليس يكون في الجنة لحم يحتز، ولا يُتَكَلَّفُ فيه الذبح، والسلخ، والطبخ، وبالجملة لا كَلَفَةَ في الجنة، و{يتنازعون} معناه: يتعاطون؛ ومنه قول الأخطل: [البسيط] نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الَّراحِ الشَّمُولِ وَقَد *** صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي قال الفخر: ويحتمل أنْ يقال: التنازع: التجاذُبُ، وحينئذ يكون تجاذُبُهُمْ تجاذبَ مُلاَعَبَةٍ، لا تجاذب منازعة، وفيه نوعُ لَذَّةٍ، وهو بيان لما عليه حال الشُرَّابِ في الدنيا؛ فإنَّهم يتفاخرون بكثرة الشرب، ولا يتفاخرون بكثرة الأكل، انتهى، والكأس: الإِناء فيه الشراب، ولا يقال في فارغ كأس؛ قاله الزَّجَّاج، واللغو: السَّقَطُ من القول، والتأثيم: يلحق خَمْرَ الدنيا في نفس شُرْبِهَا وفي الأفعال التي تكون من شاربيها، وذلك كُلُّه مُنْتَفٍ في الآخرة. * ت *: قال الثعلبيُّ: وقال ابن عطاء: أيُّ لغوٍ يكون في مجلس: مَحَلُّهُ جَنَّةُ عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربُهم على ذكر اللَّه، ورَيحانُهم تحيَّةٌ من عند اللَّه، والقومُ أضياف اللَّه. {وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي: فعل يُؤْثِمُهُمْ، وهو تفعيل من الإثم، أي: لا يأثمونَ في شربها، انتهى واللؤلؤ المكنون أجملُ اللؤلؤ؛ لأَنَّ الصون والكَنُّ يُحَسِّنُهُ، قال ابن جبير: أراد الذي في الصّدَفِ لم تنله الأيدي، وقيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: " إذَا كَانَ الْغِلْمَانُ كَاللُّؤْلُؤ المَكْنُونِ فَكَيْفَ المَخْدُومُونَ؟ قال: هُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ". * ت *: وهذا تقريب للأفهام، وإلاَّ فجمال أهلِ الجَنَّةِ أَعْظَمُ من هذا، يَدُلُّ على ذلك أحاديث صحيحة؛ ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرةَ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ- وفي رِوَايَةٍ: «مِنْ أُمَّتِي» عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ على أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّمَاءِ إضَاءَةً "، وفي رواية: " ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ " الحديثَ، وفي «صحيح مسلم» أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ في الجَنَّةَ لَسُوقاً يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمْعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، وَيَزْدَادُونَ حُسْناً وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً! فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً "، انتهى، وقد أشار الغَزَّاليُّ وغيره إلى طَرَفٍ من هذا المعنى، لَمَّا تكلَّم على رؤية العارفين للَّه سبحانه في الآخرة، قال بعد كلام: ولا يَبْعُدُ أَنْ تكونَ ألطاف الكشف والنظر في الآخرة متواليةً إلى غير نهاية، فلا يزالُ النعيمُ واللَّذَّةُ متزايداً أبَدَ الآبادِ، وللشيخ أبي الحسن الشاذلي هنا كلام حسن قال: لو كُشِفَ عن نور المؤمن لعبد من دون اللَّه، ولو كُشِفَ عن نور المؤمن العاصي لطبق السماء والأرض، فكيف بنور المؤمن المطيع؟! نقل كلامه هذا ابن عطاء اللَّه وابن عَبَّاد، انظره. ثم وصف تعالى عنهم أَنَّهُم في جملة تنعمهم {يَتَسَاءَلُونَ} أي: عن أحوالهم وما نال كُلَّ واحد منهم، وأَنَّهم يتذكرون حالَ الدنيا وخشيتَهم عذابَ الآخرة، والإشفاقُ أَشَدُّ الخشية ورِقَّةُ القلب، {السموم}: الحارُّ، و{نَدْعُوهُ}: يحتمل أَنْ يريد: الدعاءَ على بابه، ويحتمل أنْ يريد نعبده، وقرأ نافع والكسائيُّ: «أَنَّهُ» بفتح الهمزة، والباقون بكسرها و{البر} الذي يَبرُّ ويُحْسِنُ.
{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} وقوله سبحانه: {فَذَكِّرْ} أمر لنبيِّه عليه السلام بإدامة الدعاء إلى اللَّه عز وجل، ثم قال مؤنساً له: {فَمَا أَنتَ}: بإِنعام اللَّه عليك ولُطْفِهِ بك كاهِنٌ ولا مجنون. وقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ} أي: بل {شَاعِرٌ...} الآية: رُوِيَ أَنَّ قريشاً اجتمعت في دار النَّدْوَةِ، فَكَثُرَتْ آراؤُهم في النبيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قال قائل منهم: تَرَبَّصُوا به رَيْبَ المَنُونِ، أي: حوادِثَ الدهر، فَيَهْلِكَ كما هَلَكَ من قبله من الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ، والنَّابِغَةُ، وَالأَعْشَى، وغيرُهم، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك، والتَّرَبُّصُ: الانتظار، والمنون: من أسماء الموت، وبه فسر ابن عباس، وهو أيضاً من أسماء الدهر، وبه فَسَّرَ مجاهد، والرَّيْبُ هنا: الحوادث والمصائب: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّما فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا» الحديثَ. وقوله: {قُلْ تَرَبَّصُواْ} وعيد في صيغة أمر. وقوله سبحانه: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم بهذا} الأحلام: العقول، وقوله: {بهذا} يحتمل أنْ يشيرَ إلى هذه المقالة: هو شاعر، ويحتمل أَنْ يشير إلى ما هم عليه من الكُفْرِ وعِبَادَةِ الأصنام، و{تَقَوَّلَهُ} معناه: قال عن الغير أَنَّهُ قاله، فهي عبارة عن كَذِبٍ مخصوص، ثم عَجَّزَهُمْ سبحانه بقوله: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} والضمير في {مِّثْلِهِ} عائد على القرآن. وقوله: {إِن كَانُواْ صادقين} * ت *: أي: في أَنَّ محمداً تَقَوَّلَهُ؛ قاله الثعلبيُّ.
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} وقوله سبحانه: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ} قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس: من غير أَبٍ ولا أُمٍّ، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا تقوم للَّه عليهم حُجَّةٌ، أليسوا خُلِقُوا من نطفة وعلقة، وقال ابن كَيْسَانَ: أَمْ خلقوا عَبَثاً، وَتُرِكُوا سُدًى من غير شيء، أي: لغير شيء لا يؤمرون ولا يُنْهَوْنَ {أَمْ هُمُ الخالقون}: لأَنفسهم، فلا يأتمرون لأمر اللَّه، انتهى، وعَبَّرَ * ع *: عن هذا بأَنْ قال: وقال آخرون: معناه: أمْ خُلِقُوا لغير عِلَّةِ ولا لغاية عقاب وثواب؛ فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرَّعون. * ت *: وقد يحتمل أَنْ يكونَ المعنى: أم خُلِقُوا من غير شيء خَلَقَهُمْ، أي: من غير مُوجِدٍ أَوْجَدَهُمْ، ويَدُلُّ عليه مقابلته بقوله: {أَمْ هُمُ الخالقون} وهكذا قال الغَزَّاليُّ في «الإِحياء»، قال: وقوله عز وجل: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ} أي: من غير خالق، انتهى بلفظه من كتاب «آداب التلاوة» قال الغَزَّالِيُّ: ولا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الآيةَ تَدُلُّ أَنَّه لا يُخْلَقُ شَيْءٌ إلاَّ من شيء! انتهى، وقال الفخر: قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ شَئ} فيه وجوه، المنقول منها: أم خُلِقُوا من غير خالق، [وقيل: أَمْ خُلِقُوا لا لغير شيء عَبَثاً]، وقيل: أم خلقوا من غير أَبٍ وأُمِّ، انتهى، وأحسنها الأَوَّلُ؛ كما قال الغَزَّالِيُّ، واللَّه أعلم بما أراد سبحانه، وفي الصحيح عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قال: " سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذه الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ أَمْ هُمُ الخالقون} إلى قَوْلِهِ: {المصيطرون} كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ "، وفي رواية: " وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الإِيمَانُ في قَلْبِي " انتهى، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في تاريخه عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قال: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في فِدَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَكَأَنَّمَا تَصَدَّعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ الْقُرْآنَ» انتهى.
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)} وقوله سبحانه: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} بمنزلة قوله: أم عندهم الاستغناء في جميع الأمور؟ والمصيطر: القاهر، وبذلك فسر ابن عباس الآية، والسُّلَّمُ: السبب الذي يُصْعَدُ به، كان ما كان من خشب، أو بناء، أو حبال، أو غير ذلك، والمعنى: ألهم سُلَّمٌ إِلى السماء يستمعون فيه، أي: عليه أو منه، وهذه حروف يَسُدُّ بعضُها مَسَدَّ بعض، والمعنى: يستمعون الخبر بِصِحَّةِ ما يدعونه، فليأتوا بالحُجَّةِ المبينة في ذلك. وقوله سبحانه: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} الآية، قال ابن عباس: يعني أَمْ عندهم اللوحُ المحفوظ، {فَهُمْ يَكْتُبُونَ}: ما فيه، ويخبرون به، ثم قال: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً}: بك وبالشرع، ثم جزم الخبر بأنَّهم {هُمُ المكيدون} أي: هم المغلوبون، فَسَمَّى غَلَبَتَهُمْ كيداً؛ إذ كانت عقوبةُ الكَيْدِ، ثم قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله}: يعصمهم ويمنعهم من الهلاك، قال الثعلبيُّ: قال الخليل: ما في سورة الطور كُلِّها من ذكر «أم» كُلُّه استفهام لهم، انتهى. ثم نَزَّهَ تعالى نفسه: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به.
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً} أي: قطعةً يقولون لشدة معاندتهم هذا {سحاب مَّرْكُومٌ}: بعضُه على بعض، وهذا جوابٌ لقولهم: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السماء} [الشعراء: 187] وقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92] يقول: لو فعلنا هذا بهم لما آمنوا، ولقالوا: سحاب مركوم. وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ}، وما جرى مَجْرَاهُ من الموادعة منسوخٌ بآية السيف، والجمهورُ أَنَّ يومهم الذي فيه يُصْعَقُونَ، هو يوم القيامة، وقيل: هو موتهم واحداً واحداً، ويحتمل أَنْ يكون يومَ بدر؛ هو لأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فيه، والصعق: التعذيب في الجملة، وإنْ كان الاستعمالُ قد كَثُرَ فيما يصيب الإنسانَ من الصَّيْحَةِ المُفْرِطَةِ ونحوه، ثُمَّ أخبر تعالى بِأَنَّ لهم دُونَ هذا اليوم، أي: قبله {عَذَاباً} واخْتُلِفَ في تعيينه، فقال ابن عباس وغيره: هو بدر ونحوه، وقال مجاهد: هو الجُوعُ الذي أصابهم، وقال البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وابن عباس أيضاً: هو عذاب القبر، وقال ابن زيد: هي مصائب الدنيا، إذْ هي لهم عذاب. * ت *: ويحتمل أَنْ يكونَ المراد الجميع؛ قال الفخر: إنْ قلنا إنَّ العذابَ هو بدر فالذين ظلموا هم أهل مَكَّةَ، وإنْ قلنا: العذابُ هو عذابُ القبر، فالذين ظلموا عامٌّ في كل ظالم، انتهى. ثم قال تعالى لنبيِّهِ: {واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى ومنظر، نرى ونَسْمَعُ ما تقول، وأَنَّك في حفظنا وحيطتنا؛ كما تقول: فلان يرعاه المَلِكُ بعين، وهذه الآية ينبغي أَنْ يُقَرِّرَهَا كُلُّ مؤمن في نفسه؛ فإنها تُفَسِّحُ مضايق الدنيا. وقوله سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} قال أبو الأحوص: هو التسبيح المعروف، يقول في كل قيام: سبحان اللَّهِ وبحمدِهِ، وقال عطاء: المعنى حين تقومُ من كُلِّ مجلس. * ت *: وفي تفسير أحمدَ بن نصر الداوودِيِّ قال: وعن ابن المُسَيِّبِ قال: حَقٌّ على كل مسلم أنْ يقول حين يقومُ إِلى الصلاة: سبحان اللَّهِ وبحمده؛ لقولِ اللَّه سبحانه لِنَبِيِّهِ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}، انتهى، وقال ابن زيد: هي صلاة النوافل، وقال الضَّحَّاكُ: هي الصلوات المفروضة، وَمَنْ قال هي النوافل جعلَ أدبار النجوم رَكْعَتَيِ الفجر، وعلى هذا القول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وقد رُوِيَ مرفوعاً، ومَنْ جعله التسبيحَ المعروفَ جعل قوله: {حِينَ تَقُومُ} مثالاً، أي: حين تقومُ وحينَ تَقْعُدُ، وفي كل تَصَرُّفِكَ، وحكى منذر عن الضَّحَّاكِ أَنَّ المعنى: حين تقومُ في الصلاة [بعد] تكبيرة الإحرام، فقل: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ» الحديثَ.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} قوله عز وجل: {والنجم إِذَا هوى * مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} الآية، قال الحسن وغيره: النجم المُقْسَمُ به هنا: اسمُ جنس، أراد به النجوم، ثم اختلفوا في معنى {هوى} فقال جمهور المفسرين: هَوَى للغروب، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبيِّ: هوى في الانقضاض في إثر العفريت عند استراق السمع، وقال مجاهد وسفيان: النجم في قسم الآية: الثُّرَيَّا، وسُقُوطُهَا مع الفجر هو هوِيُّها، والعرب لا تقول: النجم مطلقاً إِلاَّ للثُّرَيَّا، والقسم واقع على قوله: {مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى}. * ص *: {إِذَا هوى} أبو البقاء: العامل في الظرف فِعْلُ الَقَسَمِ المحذوفِ، أي: أقسم بالنجم وَقْتَ هَوِيِّهِ، وجوابُ القَسَمِ: {مَا ضَلَّ}، انتهى، قال الفخر: أكثر المفسرين لم يُفَرِّقُوا بين الغَيِّ والضلال، وبينهما فرق؛ فالغيُّ: في مقابلة الرُّشْدِ، والضلال أَعَمُّ منه، انتهى. {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى}: يريد محمداً صلى الله عليه وسلم أَنَّه لا يتكلم عن هواه، أي: بهواه وشهوته، وقال بعض العلماء: وما ينطقُ القرآنَ المُنَزَّلَ عن هوى. * ت *: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية كما ترى.
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى} يراد به القرآن بإجماع. * ت *: وليس هذا الإِجماع بصحيح، ولفظُ الثعلبيِّ {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ} أي: ما نُطْقُهُ في الدِّينِ إلاَّ بوحي، انتهى، وهو أحسن إِنْ شاء اللَّه، قال الفخر: الوحي اسم، ومعناه: الكتاب، أو مصدر وله معانٍ: منها الإرسال، والإِلهام، والكتابة، والكلام، والإِشارة، فإنْ قلنا: هو ضمير القرآن فالوحي اسم معناه الكتاب، ويحتمل أنْ يُقَالَ: مصدر، أي: ما القرآن إلاَّ إرْسَالٌ، أي: مُرْسَلٌ، وَإِنْ قلنا: المراد من قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ} قولُ محمد وكلامُه فالوحي حينئذ هو الإلهام، أي: كلامه مُلْهَمٌ من اللَّه أو مرسل، انتهى، والضمير في {عَلَّمَهُ} لنبِيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمُعَلِّمُ هو جبريل عليه السلام قاله ابن عباس وغيره، أي: عَلَّم محمداً القرآن، و{ذُو مِرَّةٍ} معناه: ذو قُوَّة؛ قاله قتادة وغيره؛ ومنه قوله عليه السلام: «لاَ تَحِلَّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ، سَوِىّ» وَأصْلُ المِرَّةِ مِنْ مَرَائِرِ الْحَبْلِ، وهي فتله وإحكام عمله. وقوله: {فاستوى} قال الربيع والزَّجَّاج، المعنى: فاستوى جبريل في الجو، وهو إذ ذاك بالأفق الأعلى؛ إذ رآه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِحِراءَ، قد سَدَّ الأفق، له ستمائة جناحٍ، وحينئذ دنا من محمد عليه السلام حتى كان قابَ قوسين، وكذلك رآه نزلةً أخرى في صفته العظيمة، له ستمائة جناح عند السِّدْرَةِ. وقوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} قال الجمهور: المعنى: دنا جبريل إلى محمد في الأرض عند حِرَاءَ، وهذا هو الصحيح أَنَّ جميع ما في هذه الآيات من الأوصاف هو مع جبريل، و{دَنَا} أعمُّ من {تدلى} فَبَيَّنَ تعالى بقوله: {فتدلى} هيئَةَ الدُّنُوِّ كيف كانت، و{قَابَ}: معناه: قَدْر، قال قتادة وغيره: معناه: من طرف العود إلى طرفه الآخر، وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المِقْبَضِ. وقوله: {أَوْ أدنى} معناه: على مقتضى نظر البشر، أي: لو رَآه أَحَدُكُمْ لقال في ذلك: قوسان أو أدنى من ذلك، وقيل: المراد بقوسين، أي: قَدْرَ الذراعين، وعن ابن عباس: أنَّ القوس في الآية ذراعٌ يُقَاسُ به، وذكر الثعلبيُّ أَنَّهَا لُغَةُ بعض الحجازيين. وقوله تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} قال ابن عباس: المعنى: فأوحى اللَّهُ إلى عبده محمد ما أوحى، وفي قوله: {مَا أوحى} إبهام على جهة التفخيم والتعظيم؛ قال عياض: ولما كان ما كَاشَفَهُ عليه السلام من ذلك الجبروتِ، وشَاهَدَهُ من عجائب الملكوت، لا تُحِيطُ به العباراتُ، ولا تستقِلُّ بحمل سماع أدناه العقولُ رَمَزَ عنه تعالى بالإيماء والكناية الدَّالَّةِ على التعظيم، فقال تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} وهذا النوع من الكلام يسميه أَهْلُ النقد والبلاغة بالوحي والإشارة، وهو عندهم أبلغ أبواب الإِيجاز، انتهى.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)} وقوله سبحانه: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} المعنى: لم يُكَذِّبْ قلبُ محمد الشيء الذي رأى، بل صَدَّقَهُ وتحقَّقَهُ نظراً؛ قال أهل التأويل منهم ابن عباس وغيره: رأى محمد اللَّهَ بفؤاده، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " جَعَلَ اللَّهُ نُورَ بَصَرِي في فُؤَادِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِفُؤَادِيَ "، وقال آخرون من المتأولين: المعنى: ما رأى بعينه لم يُكَذِّبْ ذلك قلبُه، بل صدقه وتحققه، وقال ابن عباس فيما روِي عنه: إنَّ محمداً رأى رَبَّه بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وأنكرت ذلك عَائِشَةُ، وقالت: أنا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ هذه الآياتِ فَقَالَ لِي: «هُوَ جِبْرِيلُ فِيهَا كُلِّها» قال * ع *: وهذا قول الجمهور، وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطعٌ بكُلِّ تأويل في اللفظ؛ لأَنَّ قول غيرها إنَّما هو مُنْتَزَعٌ من ألفاظ القرآن. وقوله سبحانه: {أفتمارونه على مَا يرى} قرأ حمزة والكسائيُّ «أَفَتَمْرُونَهُ» بفتح التاء دون ألف، أي: أفتجحدونه. * ت *: قال الثعلبيُّ: واختار هذه القراءة أبو عبيد: قال إنَّهم لا يمارونه، وإنَّما جحدوه، واخْتُلِفَ في الضمير في قوله: {وَلَقَدْ رَءَاهُ} حسبما تقدم، فقالت عائشة والجمهور: هو عائد على جبريل، و{نَزْلَةً} معناه: مَرَّة أخرى، فجمهور العلماء أَنَّ المَرْئِيَّ هو جبريل عليه السلام في المرتين، مَرَّةً في الأرض بحراءَ، ومرَّةً عند سِدْرَةِ المُنْتَهَى ليلةَ الإسراء، ورآه على صورته التي خُلِقَ عليها، وسِدْرَةُ المُنْتَهَى هي: شجرة نَبْقٍ في السماء السابعة، وقيل لها: سدرة المنتهى؛ لأَنَّها إليها ينتهي عِلْمُ كُلِّ عالم، ولا يعلم ما وراءها صَعَداً إلاَّ اللَّهُ عز وجل، وقيل: سُمِّيَتْ بذلك لأَنَّها إليها ينتهي مَنْ مات على سُنَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم قال * ع *: وهم المؤمنون حقًّا من كل جيل. وقوله سبحانه: {عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} قال الجمهور: أراد سبحانه أَنْ يُعَظِّمَ مَكانَ السدرة، ويُشَرِّفَهُ بِأَنَّ جنة المأوى عندها، قال الحسن: هي الجنة التي وُعِدَ بها المؤمنون.
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} وقوله سبحانه: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} أي: غَشِيَها من أمر اللَّه ما غشيها، فما يستطيع أحد أَنْ يصفَها، وقد ذكر المُفَسِّرُون في وصفها أقوالاً هي تَكَلُّفٌ في الآية؛ لأَنَّ اللَّه تعالى أبهم ذلك، وهم يريدون شرحه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ». وقوله تعالى: {مَا زَاغَ البصر} قال ابن عباس: معناه: ما جال هكذا ولا هكذا. وقوله: {وَمَا طغى} معناه: ولا تجاوز المَرْئِيَّ، وهذا تحقيق للأمر، ونفيٌ لوجوه الريب عنه. وقوله: {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبِّهِ الكبرى} قال جماعة: معناه: لقد رأى الكبرى من آياتِ رَبِّهِ، أي: مِمَّا يمكنُ أنْ يراها البشر، وقال آخرون: المعنى: لقد رأى بَعْضاً من آيات رَبِّهِ الكبرى، وقال ابن عباس وابن مسعود: رأى رفرفاً أخضرَ من الجنة، قد سَدَّ الأفق. * ت *: وزاد الثعلبيُّ: وقيل: المعراج، وما رأى في تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه؛ دليلهُ قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا}، [الإسراء: 1] الآية، قال عِيَاضٌ: وقوله تعالى: {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبِّهِ الكبرى} انحصرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى، وتاهت الأحلامُ في تعيين تلك الآيات الكبرى، وقد اشتملت هذه الآيات على إعلام اللَّه بتزكية جملته عليه السلام وعِصْمَتِهَا من الآفات في هذا المسرى، فزكى فؤادَه ولسانَه وجوارِحَه؛ فقلبه بقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} [النجم: 11]، ولسانَهُ عليه السلام بقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3]، وبصرَهُ بقوله تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} اه. ولما فرغ من ذكر عظمة اللَّه وقدرته قال على جهة التوقيف: {أَفَرَءَيْتُمُ اللات والعزى...} الآية، أي: أرأيتم هذه الأوثان وحقارَتَها وبُعْدَهَا عن هذه القدرة والصفات العَلِيَّةِ، واللات: صنم كانتِ العربُ تعظمه، والعُزَّى: صخرة بيضاءُ كانت العرب أيضاً تعبُدُها، وأمَّا مناة: فكانت بالمشلل من قديد، وكانت أعظم هذه الأوثان عندهم، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ووقف تعالى الكُفَّارَ على هذه الأوثان، وعلى قولهم فيها: إنها بنات اللَّه، فكأَنَّه قال: أرأيتم هذه الأوثانَ وقولَكُمْ: هي بناتُ اللَّه {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} ثم قال تعالى على جهة الإنكار: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي: عوجاء؛ قاله مجاهد، وقيل: جائرة قاله ابن عباس، وقال سفيان: معناه: منقوصة، وقال ابن زيد: معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضِزْتُهُ حَقَّهُ أَضِيزُهُ بمعنى: منعته، وضِيزَى من هذا التصريف؛ قال أبو حيان: و{الثالثة الأخرى} صفتان لمناة؛ للتأكيد، قيل: وأُكِّدَتْ بهذين الوصفين؛ لِعَظَمِهَا عندهم، وقال الزمخشري: والأخرى ذَمٌّ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدارِ، وتُعُقِّبَ بأنَّ أخرى مُؤنث آخر، ولم يُوضَعَا لِلذَّمِ ولا للمدح. * ت *: وفي هذا التعقب تعسف، والظاهر أَنَّ الوصفين معاً سِيقَا مَسَاقَ الذَّمِّ؛ لأَنَّ هؤلاءِ الكُفَّارِ لم يكتفوا بضلالهم في اعتقادهم ما لا يجوز في اللات والعزى، إِلى أَنْ أضافوا إلى ذلك مَنَاةَ الثالثة الأخرى الحقيرة، وكُلُّ أصنامهم حقير، انتهى. ثم قال تعالى: {إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ} يعني: إنْ هذه الأوصافُ من أَنَّها إناث، وَأَنَّها آلهة تعْبَدُ، ونحو هذا إلاَّ أَسماءٌ، أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل اللَّه بها برهاناً ولا حُجَّةً، وما هو إلاَّ اتِّباعُ الظن، {وَمَا تَهْوَى الأنفس} وهَوَى الأنفس هو إرادتها الملذة لها، وإِنَّما تجد هوى النفس أبداً في ترك الأفضل؛ لأَنَّها مجبولةٌ بطبعها على حُبِّ الملذ، وإِنَّما يَرْدَعُها وَيَسُوقُها إلى حُسْنِ العاقبة العقلُ والشرع. وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} فيه توبيخ لهم، إِذْ يفعلون هذه القبائِحَ والهدى حاضر، وهو محمد وشرعه، والإنسان في قوله: {أَمْ للإنسان} اسم جنس، كأَنَّه يقول: ليست الأشياءُ بالتمني والشهوات، وإِنَّما الأمر كُلُّه للَّه، والأعْمَالُ جاريةٌ على قانون أمره ونهيه، فليس لكم أَيُّهَا الكَفَرَةُ مُرَادُكُمْ في قولكم: هذه آلهتنا، وهي تشفعُ لنا، وتُقَرِّبُنَا إِلى اللَّه زُلْفَى، ونحو هذا {فَلِلَّهِ الأخرة والأولى} أي: له كل أمرهما: مُلْكاً، ومقدوراً، وتَحْتَ سلطانه، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ في كتاب «عيوب النفس»: ومن عيوب النفس كثرةُ التَّمَنِّي، والتَّمَنِّي هو الاعتراضُ على اللَّه عَزَّ وجلَّ في قضائه وقَدَرِهِ، ومداواتُها أَنْ يعلم أَنَّه لا يدري ما يعقبه التمني، أيجرُّهُ إلى خير أو إلى شَرٍّ؟ فإذا تَيَقَّنَ إبهام عاقبة تمنيه، أَسْقَطَ عن نفسه ذلك، ورَجَعَ إلى الرِّضَا والتسليم، فيستريح، انتهى.
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} وقوله سبحانه: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ...} الآية: رَدٌّ على قريش في قولهم: الأوثان شفعاؤنا، {وَكَمْ} للتكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر {لاَ تُغْنِى} والغِنَى جَلْبُ النفع ودَفْعُ الضُّرِّ بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء. وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} يعني: كُفَّارَ العرب. وقوله: {وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً} أي: في المُعْتَقَدَاتِ، والمواضع التي يريد الإنسانُ أَنْ يُجَرِّرَ ما يَعْقِلُ ويعتقد؛ فَإنَّهَا مواضع حقائق، لا تنفعُ الظنونُ فيها، وَأَمَّا في الأحكام وظواهرها فيجتزئ فيها بالمظنونات. ثم سَلَّى سبحانه نَبِيَّه وأمره بالإعراض عن هؤلاء الكَفَرَةِ. وقوله: {عَن ذِكْرِنَا} قال الثعلبيُّ: يعني القرآن. وقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} الآية متصلة في معنى التسلية، ومتضمنة وعيداً للكافرين، ووعداً للمؤمنين، والحُسْنَى: الجنة ولا حسنى دونها، وقد تقدم نقلُ الأقوال في الكبائر في سورة النساء وغيرها، وتحريرُ القول في الكبائر أَنَّها كُلُّ معصيةٍ يوجد فيها حَدٌّ في الدنيا أو تَوَعُّدٌ عليها بِالنَّارِ في الآخرة، أو لعنة، ونحو هذا. وقوله: {إِلاَّ اللمم} هو استثناء يَصِحُّ أنْ يكونَ مُتَّصِلاً، وإنْ قدرته مُنْقَطِعاً ساغ ذلك، وبِكُلٍّ قد قيل، واخْتُلِفَ في معنى {اللمم} فقال أبو هريرة، وابن عباس، والشَّعْبِيُّ، وغيرهم: اللمم: صِغَارُ الذنوب التي لا حَدَّ فيها ولا وَعِيدَ عليها؛ لأَنَّ الناسَ لا يتخلَّصُونَ من مُوَاقَعَةِ هذه الصغائر، ولهم مع ذلك الحُسْنَى إذا اجتنبوا الكبائر، وتظاهر العلماءُ في هذا القول، وكَثُرَ المائِلُ إليه، وحُكِيَ عن ابن المُسَيِّبِ أَنَّ اللمم: ما خطر على القلب، يعني بذلك لمَّةَ الشيطان، وقال ابن عباس: معناه: إلاَّ ما أَلَمُّوا به من المعاصي الفَلْتَةُ والسَّقْطَةُ دون دوام ثم يتوبون منه، وعنِ الحسن بن أبي الحسن أَنَّهُ قال: في اللَّمَّةِ من الزنا، والسَّرِقَةِ، وشرب الخمر ثم لا يعود، قال * ع *: وهذا التأويلُ يقتضي الرِّفْقَ بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى؛ إذِ الغالب في المؤمنين مواقعةُ المعاصي، وعلى هذا أنشدوا، وقد تَمَثَّلَ به النبي صلى الله عليه وسلم: [الرجز] إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا *** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا وقوله سبحانه: {إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} يريد: خلق أبيهم آدم، ويحتمل أَنْ يرادَ به إنشاء الغذاء، وأجِنَّةٌ: جمع جنين. وقوله سبحانه: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} ظاهره النهيُ عن تزكية الإنسانِ نَفْسَهُ، ويحتمل أَنْ يكونَ نهياً عن أنْ يُزَكِّيَ بعضُ الناسِ بعضاً، وإذا كان هذا، فَإنَّما يُنْهَى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا أو القطع بالتزكية، وأَمَّا تزكيةُ الإمامِ والقُدْوَةِ أحداً لِيُؤْتَمَّ به أو ليتهمم الناسَ بالخير، فجائز، وفي الباب أحاديثُ صحيحة، وباقي الآية بَيِّنٌ. * ت *: قال صاحِبُ «الكَلِمِ الفارِقِيَّةِ»: أَعْرَفُ الناسِ بنفسه أَشَدُّهُمْ إيقاعاً للتهمة بِها في كل ما يبدو ويظهرُ له منها، وأجهلهم بمعرفتها وخفايا آفاتها وكوامن مكرها مَنْ زَكَّاها، وأَحْسَنَ ظَنَّهُ بها؛ لأَنَّها مُقْبِلَةٌ على عاجل حظوظها، مُعْرِضَةٌ عنِ الاستعداد لآخرتها، انتهى، وقال ابن عطاء اللَّه: أَصْلُ كل معصيةٍ وغفلة، وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة، ويقظة، وعِفَّةٍ عَدَمُ الرضا منك عنها؛ قال شارحه ابن عُبَّاد: الرضا عن النفس: أصل جميع الصفات المذمومة، وعَدَمُ الرضا عنها أصلُ الصفات المحمودة، وقدِ اتَّفق على هذا جميعُ العارفين وأرباب القلوب؛ وذلك لأَنَّ الرضا عن النفس يوجب تغطيةَ عيوبِهَا ومساويها، وعَدَمَ الرضا عنها على عكس هذا؛ كما قيل: [الطويل] وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ *** وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا انتهى.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الذى تولى...} الآية، قال مجاهد، وابن زيد، وغيرُها: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزوميِّ؛ وذلك أَنَّهُ سَمِعَ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وَوَعْظَهُ فقرب من الإسلام، وطمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في إسلامه، ثم إنَّه عاتبه رجلٌ من المشركين، وقال له: أتتركُ مِلَّةَ آبائك؟ا ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأَنا أتَحَمَّلُ لك بكلِّ شيء تخافه في الآخرة، لكن على أَنْ تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عَمَّا هَمَّ به من الإسلام، وأعطى بعضَ ذلك المالَ لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشَحَّ، فنزلت الآية فيه، وقال السُّدِّيُّ: نزلت في العاصي بن وائل؛ قال * ع *: فقوله: {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} على هذا هو في المال، وقال مقاتل في كتاب الثعلبيِّ: المعنى: أعطى الوليدُ قليلاً من الخير بلسانه، ثم {وأكدى}، أي: انقطع ما أعطى، وهذا بَيِّنٌ من اللفظ، والآخر يحتاج إلى رواية، و{تولى} معناه: أدبر وأعرض عن أمر اللَّه، {وأكدى} معناه: انقطع عطاؤه، وهو مشبه بالذي يحفر في الأرض؛ فإنَّه إذا انتهى في حفر بئر ونحوه إلى كُدْيَةٍ، وهي ما صَلُبَ من الأرض يَئِسَ من الماء، وانقطع حفرُهُ، وكذلك أجبل إذا انتهى في الحفر إلى جبل، ثم قيل لمن انقطع: عمله أكدى وأجبل. * ت *: قال الثعلبيُّ: وأصله من الكُدْيَةِ، وهو حجر في البئر يؤيس من الماء؛ قال الكسائِيُّ: تقول العرب: أَكْدَى الحَافَرُ وأَجْبَلَ: إذا بَلَغَ في الحَفْرِ إلى الكُدْيَةِ والجَبَلِ، انتهى. وقوله عز وجل: {أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى} معناه: أَعَلِمَ من الغيب أَنَّ مَنْ تحمَّل ذنوبَ آخر انتفع بذلك المُتَحَمَّلُ عنه؛ فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيرة؟! أم هو جاهل، لم يُنَبَّأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وَفَّى بما أُرْسِلَ بِه، من أَنَّهُ لا تَزِرُ وازرة، أي: لا تحملُ حَامِلَةٌ حَمْلَ أخرى؛ وفي البخاري {وإبراهيم الذى وفى}: وفى ما فُرِضَ عليه، انتهى.
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} وقوله سبحانه: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} وما بعده، كل ذلك معطوف على قوله: {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} والجمهور أَنَّ قوله: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} مُحْكَمٌ لا نسخَ فيه، وهو لفظ عام مخصص. وقوله: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي: يراه اللَّه، ومَنْ شاهد تلك الأُمُورَ، وَفِي عَرْضِ الأعمال على الجميع تشريفٌ للمحسنين وتوبيخٌ للمسيئين، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ بِأَخِيهِ فِيمَا يَكْرَهُ، سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وفي قوله تعالى: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى} وعيد للكافرين، ووعد للمؤمنين.
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)} وقوله سبحانه: {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى} أي: مُنْتَهَى الخلق ومصيرُهم، اللَّهمَّ أطلعنا على خيرك بفضلك، ولا تفضحْنا بين خلقك، وجُدْ علينا بسترك في الدارين! وَحُقَّ لعبد يعلم أَنَّه إلى ربه منتهاه؛ أَنْ يرفض هواه؛ ويزهدَ في دنياه، ويُقْبِلَ بقلبه على مولاه؛ ويقتدي بنبيٍّ فَضَّلَهُ اللَّهُ على خلقه وارتضاه؛ ويتأمل كيف كان زهده صلى الله عليه وسلم في دنياه؛ وإِقباله على مولاه؛ قال عياض في «شفاه»: وأما زُهْدُهُ صلى الله عليه وسلم، فقد قدمنا من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي، وحَسْبُكَ من تقلُّله منها وإِعراضِهِ عَنْهَا وعن زَهْرَتِها، وقد سِيقَتْ إليه بحذافيرها، وترادفَتْ عليه فُتُوحَاتُهَا أَنَّهُ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم ودِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وهو يدعو، ويقول: «اللَّهُمَّ اجعل رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً». وفي «صحيح مسلم» عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: " ما شَبِعَ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعاً حتى مضى لِسَبِيلِهِ ". وعنها- رضي اللَّه عنها- قالت: " لَمْ يَمْتَلِئ جَوْفُ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِبَعاً قَطُّ، وَلَمْ يَبُثَّ شكوى إلى أَحَدٍ، وَكَانَتِ الْفَاقَةُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الغنى، وَإِنْ كَانَ لَيَظَلُّ جَائِعاً يَلْتَوِي طُولَ لَيْلَتِهِ مِنَ الْجُوعِ، فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ صِيَامَ يَوْمِهِ، وَلَوْ شَاءَ سَأَلَ رَبَّهُ جَمِيعَ كُنُوزِ الأَرْضِ وَثِمَارِهَا وَرَغْدِ عَيْشِهَا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي لَهُ؛ رَحْمَةً مِمَّا أرى بِهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِي على بَطْنِهِ مِمَّا بِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَقُولُ: نَفْسِ لَكَ الْفِدَاءُ لَوْ تَبَلَّغْتَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَقُوتُكَ! فَيَقُولُ: يَا عَائِشَةُ، مَا لِي وَلِلدُّنْيَا! إخْوَانِي مِنْ أُولي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا على مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هذا، فَمَضَوْا على حَالِهِمْ، فَقَدِمُوا على رَبِّهِمْ فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ، وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ، فَأَجِدُنِي أَسْتَحِيي إنْ تَرَفَّهْتُ فِي مَعِيشَتِي أنْ يُقَصِّرَ بِي غَداً دُونَهُمْ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بإخْوَانِي وأَخِلاَّئِي، قَالَتْ: فَمَا أَقَامَ بَعْدُ إلاَّ أَشْهُراً حتى تُوُفِّيَ صلواتُ اللَّهُ وسَلاَمُهُ عليه " انتهى، وباقي الآية دَلالة على التوحيد واضحة، و{النشأة الأخرى}: هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البِلَى، {وأقنى} معناه: أَكْسَبَ ما يُقْتَنَى؛ تقول: قنيت المالَ، أي: كسبْته، وقال ابن عباس: {وأقنى}: قنَّع، قال * ع *: والقناعة خير قُنْيَةٍ، والغِنَى عرض زائل، فَلِلَّهِ دَرُّ ابن عباس! و{الشعرى}: نجم في السماء، قال مجاهد وابن زيد: هو مرزم الجَوْزاء، وهما شِعْرَيَانِ: إحداهما الغُمَيْصَاءُ، والأُخرى العَبُور؛ لأَنَّها عَبَرَتِ المجرَّةَ، وكانت خُزَاعَةُ مِمَّنْ يَعْبُدُ هذه الشعْرَى العَبُورَ، ومعنى الآية: وَأَنَّ اللَّه سبحانه رَبُّ هذا المعبودِ الذي لكم و{عَاداً الأولى}: اختلف في معنى وصفها بالأُولى، فقال الجمهور: سُمِّيتْ «أولى» بالإضافة إلى الأمم المتأخِرة عنها، وقال الطبريُّ وغيره: سُمِّيتْ أولى؛ لأَنَّ ثَمَّ عاداً آخرةً، وهي قبيلة كانت بمكَّةَ مع العماليق، وهم بنو لقيم بن هزال، واللَّه أعلم، وقرأ الجمهور: «وَثَمُودَا» بالنصب؛ عطفاً على «عاداً» «وقومَ نوحٍ» عطفاً على «ثمود». وقوله: {مِّن قَبْلُ} لأَنَّهم كانوا أَوَّلَ أُمَّة كَذَّبت من أهل الأرض، {والمؤتفكة}: قرية قومِ لوطٍ {أهوى} أي: طرحها من هواء عالٍ إلى سفل.
{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)} وقوله سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى} مخاطبة للإنسان الكافر؛ كأَنَّه قيل له: هذا هو اللَّه الذي له هذه الأفعال، وهو خالِقُكَ المُنْعِمُ عليكَ بكُلِّ النِّعَمِ، ففي أَيّها تشك وتتمارى؟! معناه: تشكك، وقال مالك الغفاريُّ: إنَّ قوله: {أَلاَّ تَزِرُ} إلى قوله: {تتمارى} هو في صحف إِبراهيم وموسى. وقوله سبحانه: {هذا نَذِيرٌ} يحتمل أَنْ يشير إلى نَبِيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول قتادة وغيره، وهذا هو الأشبه، ويحتمل أنْ يشير إلى القرآن، وهو تأويل قوم، و{نَذِيرٌ} يحتمل أَنْ يكونَ بناء اسم فاعل، ويحتمل أَنْ يكون مصدراً، ونُذُر جمع نذير. وقوله تعالى: {أَزِفَتِ الأزفة} معناه: قربت القريبة، والآزفة: عبارة عن القيامة بإجماعٍ من المفسرين، وأَزِفَ معناه قَرُبَ جدًّا؛ قال كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: [البسيط] بَانَ الشَّبَابُ وَآهَا الشَّيْب قَدْ أَزِفَا *** وَلاَ أَرَى لشَبَابٍ ذَاهِبٍ خَلَفَا و {كَاشِفَةٌ} يحتمل أَنْ تكون صفة لمؤنث التقدير: حال كاشفة ونحو هذا التقدير، ويحتمل أَنْ تكونَ بمعنى: كاشف؛ قال الطبريُّ والزَّجَّاج: هو من كشف السِّرّ، أي: ليس من دون اللَّه مَنْ يشكف وَقْتَهَا ويعلمه، وقال منذر بن سعيد: هو من كشف الضُّرّ ودفعه، أي: ليس مَنْ يكشف خَطْبَهَا وهولها إِلاَّ اللَّهُ.
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} وقوله سبحانه: {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ...} الآية: روى سعد بن أَبي وَقَّاص أنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ هذا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِخَوْفٍ، فَإذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوا " ذكره الثعلبيُّ، وأخرج الترمذي والنسائيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ: " لاَ يَلِجُ النَّارَ مَنْ بكى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حتى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ في مَنْخِرٍ أبَدًا " قال النسائيُّ: ويروى: «في جَوْفٍ أبَدًا»: «وَلاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإيمَانُ في قَلْبٍ أَبَدًا» قال الترمذي: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللَّهِ " انتهى من «مصابيح البَغَوِيِّ». قال أبو عمر بن عبد البر: رُوِيَ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: " إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ؛ فَإنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ " انتهى من «بهجة المجالس»، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هؤلاء الكَلِمَاتِ؛ فَيَعْمَلَ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمَ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَعَدَّ خَمْسَاً، وَقَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وارض بِمَا قَسَّمَ اللَّهُ لَكَ، تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إلى جَارِكَ، تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ يُمِيتُ الْقَلْبَ " انتهى، والسامد: اللاعب اللاهي، وبهذا فسَّرَ ابن عباس وغيره من المفسرين، وسمد بلغة حمير: غَنِيَ، وهو كُلُّه معنى قريب بعضُه من بعض، ثم أمر تعالى بالسجود له والعبادة؛ تخويفاً وتحذيراً، وههنا سجدةٌ في قول كثير من العلماء، ووردت بها أحاديثُ صحاح، ولم يَرَ مالك بالسجود هنا، وقال زيد بن ثابت: إنَّهُ قَرَأ بِهَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَسْجُدْ. قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: وكان مالكٌ يَسْجُدُهَا في خاصَّة نَفْسِهِ، انتهى
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} قوله سبحانه: {اقتربت الساعة وانشق القمر} معناه: قربت الساعة، وهي القيامة، وأمرها مجهول التحديد، وكل ما يُرْوَى في عمر الدنيا من التحديد فضعيف. وقوله: {وانشق القمر} إخبار عمَّا وقع؛ وذلك أَنَّ قريشاً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آيةً فَأَرَاهُمُ اللَّهُ انشقاق الْقَمَرِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالكُفَّارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اشهدوا. وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ}: جاء اللفظ مستقبلاً، لينتظمَ ما مضى وما يأتي، فهو إخبار بأنَّ حالهم هكذا. وقوله: {مُّسْتَمِرٌّ}: قال الزَّجَّاجُ: قيل معناه: دائم متمادٍ، وقال قتادة وغيره: معناه: مارٌّ ذاهب عن قريب يزول، ثم قال سبحانه على جهة جزم الخبر: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} كأَنَّه يقول: وكل شيء إِلى غاية عنده سبحانه، و{مُزْدَجَرٌ} معناه: موضع زجر. وقوله: {فَمَا تُغْنِى النذر}: يحتمل أنْ تكون «ما» نافية، ويحتمل أنْ تكون استفهاميَّة. ثم سَلَّى سبحانه نِبِيَّه عليه السلام بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: لا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ، وتَمَّ القولُ في قوله: {عَنْهُمْ} ثم ابتدأ وعيدَهم بقوله: {يَوْمَ} والعامل في [{يَوْمَ}] قوله {يَخْرُجُونَ} وقال الرُّمَّانِيُّ: المعنى: فتولّ عنهم، واذكر يوم، وقال الحسن: المعنى: فتَولَّ عنهم إلى يوم. وقرأ الجمهور: «نُكُرِ» بضم الكاف؛ قال الخليل: النُكُر: نعت للأمر الشديد والرجل الداهية، وخَصَّ الأبصارَ بالخشوع، لأَنَّهُ فيها أظهرُ منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أَو صَلَفٍ أو خوف ونحو، إِنَّما يظهرُ في الأبصار، و{الأجداث}: جمع جَدَثٍ وهو القبر، وشَبَّهَهُمْ سبحانه بالجراد المنتشر، وقد شبههم سبحانه في آية أخرى بالفراش المبثوث، وفيهم من كل هذا شَبَهٌ، وذهب بعض المفسرين إلى أَنَّهم أَوَّلاً كالفراش حين يَمُوجُ بعضُهم في بعض؛ ثم في رتبة أُخرى كالجراد إذا توجَّهُوا نحو المَحْشَرِ والداعي، والمُهْطِعُ: المُسْرِعُ في مشيه نحو الشيء مع هَزٍّ ورَهَقٍ ومَدِّ بَصَرٍ نحو المَقْصِدِ، إِمَّا لخوف، أو طمع ونحوه؛ قال أبو حيان: {مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين، وقيل: فاتحين آذانهم للصوت، انتهى. وَ {يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} لما يرون من مخايل هَوْلِهِ وعلامات مشقته.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)} وقوله سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ...} الآية: وعيدٌ لقريشٍ، وضَرْبُ مَثَلٍ لهم. وقوله: {وازدجر}: إِخبار من اللَّه عز وجل أَنَّهُمْ زَجَرُوا نوحاً عليه السلام بالسَّبِّ والنَّجْهِ والتخويف، قاله ابن زيد. وقوله: {فانتصر} أي: فانتصر لي منهم بأن تهلِكَهُمْ. وقوله: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء} قال الجمهور: هذا مجاز وتشبيه؛ لأَنَّ المطر كأَنَّه من أبواب، وهذا مبدأ الانتصار من الكفار، والمُنْهَمِرُ: الشديد الوقوع الغزِيرُ، وقرأ الجمهور: {فَالْتَقَى الماء} يعني: ماءَ السماء وماءَ العيون. وقوله سبحانه: {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي: قد قُضِيَ وَقُدِّرَ في الأَزَلِ، و{ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ}: هي السفينة، والدَّسُرُ: المسامير، واحدها: دِسار؛ وهذا هو قول الجمهور، وقال مجاهد: الدُّسُرُ: أضلاع السفينة، قال العراقيُّ: والدِّسَار أيضاً: ما تُشَدُّ به السفينة، انتهى. وقوله تعالى: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} معناه: بحفظنا وتحتَ نظرٍ مِنَّا، قال البخاريُّ: قال قتادة: أبقى اللَّه عز وجل سفينةَ نوح حتَّى أدركها أَوائِلُ هذه الأُمَّةِ، انتهى، وقرأ جمهور الناس: {جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} مبنيًّا للمفعول، قال مكيُّ: قيل: «مَنْ» يرادُ بها نوحٌ والمؤمنون؛ لأنَّهم كُفِروا من حيثُ كُفِرَ بهم، فجزاهم اللَّه بالنجاة، وقُرِئ شاذًّا: «كَفَرَ» مبنيًّا للفاعل، والضمير في {تركناها} قالَ مَكِّيّ: هو عائد على هذه الفِعْلَةِ والقِصَّةِ، وقال قتادة وغيره: هو عائد على السفينة، و{مُّدَّكِرٍ} أصله: مدتكر؛ أبدلوا من التَّاءِ دالاً، ثم أدغموا الذَّالَ في الدَّالِ، وهذه قراءة الناس، قال أبو حاتم: ورُوِيَتْ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)} وقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ}: توقيف لكفار قريش، والنذر: هنا جمع نذير، وهو المصدر، والمعنى: كيف كان عاقبةُ إنذاري لمن لم يَحْفَلْ به كأنتم أيُّها القوم؟ و{يَسَّرْنَا القرءان} أي: سَهَّلْناه وقَرَّبْناه، والذِّكْرُ: الحفظ عن ظهر قلب؛ قال * ع *: يُسِّرَ بما فيه من حُسْنِ النظم وشَرَفِ المعاني، فله حلاوةٌ في القلوب، وامتزاجٌ بالعقول السليمة. وقوله: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}: استدعاءٌ وحَضٌّ على ذكرِهِ وحفظِهِ؛ لتكونَ زواجرُهُ وعلومُهُ حاضرةً في النفس، فللَّه دُرُّ مَنْ قبِل وهدي. * ت *: وقال الثعلبيُّ: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي: من مُتَّعظ. وقوله: {فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} الآية: ورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية: {يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ}: يوم الأربعاء، ومستمر معناه: متتابع.
|